الصوم من شرائع الإسلام العظيمة التى شرعها الله تعالى للأمة الإسلامية كما شرعة على من قبلها، وهو من الشرائع الرامية إلى تزكية النفس ورياضيتها على مكارم الأخلاق من القناعة والزهد والأمانة، والبعد عن رذائلها من الجشع والخيانة والسباب والفواح التى تنافى الصوم.
قال العلامة جمال الدين القاسمى(4): "إعلم ان مصالح الصوم لما كانت مشهودة بالعقول السليمة، والفطر المستقيمة شرعه الله لعباده رحمة لهم، وإحساناً إليهم وحمية وجنة، قال: فإن مقصود الصيام حبس النفس عن الشهوات، وفطمها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية لتسعد بطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، ويكسر الجوع والظمأ من حدتها وسورتها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، وتضييق مجارى الشيطان من العبد، بتضييق مجارى الطعام والشراب، وحبس قوى الأعضاء من استرسالها لحكم الطبيعة فيما يضرها فى معاشها ومعادها، ويسكن كل عضو منها، وكل قوة عن جماحها، وتلجم بلجامه فهو لجام المتعين، وجنة المجاهدين، ورياضة الأبرار المقربين، وهو لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئاً، إنما ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وملذوذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سر بين العبد وربه لا يطلع عليه سواه"(5).
قلت: وهذا ما يدل عليه قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ - [البقرة: 183]
إذ دلت الآية على أن الصوم يورث التقوى، كما يفيده تعليل فريضة الصوم به، والمعنى: ليحصل لكم التقوى بالصوم فإنه يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة، وانقماع الهوى، فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، ويكسر شهوة البطن والفرج، وذلك جامع لأسباب التقوى، قال الفخر الرازى: " فيكون معنى الآية: فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم فى كتابى"(6). "ولعل فى مقام الله جل جلاله تفيد الوجوب، لأنها وإن كانت للترجى والإطماع فى أصل وضعها، إلا أنه إطماع من كريم فيجرى مجرى وعده المحتوم وفاؤه"(7).
والتقوى التى يثمرها الصوم قد علق الله تعالى عليها خيرات عظيمة، وسعادات جسيمة فى كتابه العزيز، منها: معيته التى تعنى الحفظ واللطف كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ - [البقرة: 194].
ومنها: العلم اللذنى كما قل جل شأنه: وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ - [البقرة: 282].
ومنها: المخرج من كل شدة، وتيسير الرزق من حيث لا يحتسب المرء كما قال تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ - [الطلاق: 2-3].
ومنها: تكفير السيئات وتعظيم أجر الحسنات كما قال سبحانه: ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً - [الطلاق: 5].
إلى غير ذلك من الخيرات الجسيمة المترتبة على التقوى التى أشار إليها القرآن الكريم(
والتى جعل الصيام من أسباب حصولها، لكونه موجباً لاتقاء المعاصى؛ لأنه يعدل القوى الطبيعية التى هى داعية الفساد، فيرتقى المسلم به عن حضيض الانغماس فى المادة إلى أوج العام الروحانى، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية، والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية(9).